سورة مريم - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: {قَالَ رَبُّكَ هُوَ هَيّنٌ} وجوه:
أحدها: أن الكاف رفع أي الأمر كذلك تصديقاً له ثم ابتدأ قال ربك.
وثانيها: نصب يقال وذلك إشارة إلى مبهم تفسيره هو علي هين وهو كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْكَ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 66].
وثالثها؛ أن المراد لا تعجب فإنه كذلك قال ربك لا خلف في قوله ولا غلط ثم قال بعده هو علي هين بدليل خلقتك من قبل ولم تك شيئاً.
ورابعها: أنا ذكرنا أن قوله أنى يكون لي غلام معناه تعطيني الغلام بأن تجعلني وزوجتي شابين أو بأن تتركنا على الشيخوخة ومع ذلك تعطينا الولد، وقوله: {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} أي نهب الولد مع بقائك وبقاء زوجتك على الحاصلة في الحال.
المسألة الثانية؛ قرأ الحسن وهو علي هين وهذا لا يخرج إلا على الوجه الأول أي الأمر كما قلت ولكن قال ربك هو مع ذلك علي هين.
المسألة الثالثة: إطلاق لفظ الهين في حق الله تعالى مجاز لأن ذلك إنما يجوز في حق من يجوز أن يصعب عليه شيء ولكن المراد أنه إذا أراد شيئاً كان.
المسألة الرابعة: في وجه الاستدلال بقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} فنقول: إنه لما خلقه من العدم الصرف والنفي المحض كان قادراً على خلق الذوات والصفات والآثار وأما الآن فخلق الولد من الشيخ والشيخة لا يحتاج فيه إلا إلى تبديل الصفات والقادر على خلق الذوات والصفات والآثار معاً أولى أن يكون قادراً على تبديل الصفات وإذا أوجده عن عدم فكذا يرزقه الولد بأن يعيد إليه وإلى صاحبته القوة التي عنها يتولد الماءان اللذان من اجتماعهما يخلق الولد ولذلك قال: {فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] فهذا وجه الاستدلال.
المسألة الخامسة: الجمهور على أن قوله قال كذلك قال ربك يقتضي أن القائل لذلك ملك مع الاعتراف بأن قوله: {يازكريا إِنَّا نُبَشّرُكَ} [مريم: 7] قول الله تعالى وقوله: {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} قول الله تعالى وهذا بعيد لأنه إذا كان ما قبل هذا الكلام وما بعده قول الله تعالى فكيف يصح إدراج هذه الألفاظ فيما بين هذين القولين، والأولى أن يقال قائل هذا القول أيضاً هو الله تعالى كما أن الملك العظيم إذا وعد عبده شيئاً عظيماً فيقول العبد من أين يحصل لي هذا فيقول إن سلطانك ضمن لك ذلك كأنه ينبه بذلك على أن كونه سلطاناً مما يوجب عليه الوفاء بالوعد فكذا هاهنا.


{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال بعضهم طلب الآية لتحقيق البشارة وهذا بعيد لأن بقول الله تعالى قد تحققت البشارة فلا يكون إظهار الآية أقوى من ذلك من صريح القول وقال آخرون: البشارة بالولد وقعت مطلقة فلا يعرف وقتها بمجرد البشارة فطلب الآية ليعرف بها وقت الوقوع وهذا هو الحق.
المسألة الثانية: اتفقوا على أن تلك الآية هي تعذر الكلام عليه فإن مجرد السكوت مع القدرة على الكلام لا يكون معجزة ثم اختلفوا على قولين: أحدهما: أنه اعتقل لسانه أصلاً.
والثاني: أنه امتنع عليه الكلام مع القوم على وجه المخاطبة مع أنه كان متمكناً من ذكر الله ومن قراءة التوراة وهذا القول عندي أصح لأن اعتقال اللسان مطلقاً قد يكون لمرض وقد يكون من فعل الله فلا يعرف زكريا عليه السلام أن ذلك الاعتقال معجزاً إلا إذا عرف أنه ليس لمرض بل لمحض فعل الله تعالى مع سلامة الآلات وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى، أما لو اعتقل لسانه عن الكلام مع القوم مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءة التوراة علم بالضرورة أن ذلك الاعتقال ليس لعلة ومرض بل هو لمحض فعل الله فيتحقق كونه آية ومعجزة ومما يقوي ذلك قوله تعالى: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلّمَ الناس ثلاث لَيَالٍ سَوِيّاً} خص ذلك بالتكلم مع الناس وهذا يدل بطريق المفهوم أنه كان قادراً على التكلم مع غير الناس.
المسألة الثالثة: اختلفوا في معنى {سَوِيّاً} فقال بعضهم: هو صفة لليالي الثلاث وقال أكثر المفسرين هو صفة لزكريا والمعنى: آيتك أن لا تكلم الناس في هذه المدة مع كونك سوياً لم يحدث بك مرض.


{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب} قيل كان له موضع ينفرد فيه بالصلاة والعبادة ثم ينتقل إلى قومه فعند ذلك أوحى إليهم، وقيل: كان موضعاً يصلي فيه هو وغيره إلا أنهم كانوا لا يدخلونه للصلاة إلا بإذنه وأنهم اجتمعوا ينتظرون خروجه للإذن فخرج إليهم وهو لا يتكلم فأوحى إليهم.
المسألة الثانية: لا يجوز أن يكون المراد من قوله أوحى إليهم الكلام لأن الكلام كان ممتنعاً عليه فكان المراد غير الكلام وهو أن يعرفهم ذلك إما بالإشارة أو برمز مخصوص أو بكتابة لأن كل ذلك يفهم منه المراد فعلموا أنه قد كان ما بشر به فكما حصل السرور له حصل لهم فظهر لهم إكرام الله تعالى له بالإجابة، واعلم أن الأشبه بالآية هو الإشارة لقوله تعالى في سورة آل عمران: {ثلاثة أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} [آل عمران: 41] والرمز لا يكون كناية للكلام.
المسألة الثالثة: اتفق المفسرون على أنه أراد بالتسبيح الصلاة وهو جائز في اللغة يقال: سبحه الضحى أي صلاة الضحى وعن عائشة رضي الله عنها في صلاة الضحى: إني لأسبحها أي لأصليها إذا ثبت هذا فنقول روي عن أبي العالية أن البكرة صلاة الفجر والعشي صلاة العصر ويحتمل أن يكون إنما كانوا يصلون معه في محرابه هاتين الصلاتين فكان يخرج إليهم فيأذن لهم بلسانه، فلما اعتقل لسانه خرج إليهم كعادته فأذن لهم بغير كلام، والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8